iDiMi
تغيير اللغة
تبديل النمط

سبل البقاء في المجتمع الذكي

سبل البقاء في المجتمع الذكي

يُروى أن الله حين خلق العالم وزّع على كل كائن حي مهارة للبقاء، لكن عندما جاء دور الإنسان كانت المهارات قد استنفدت، فلم يمنحه إلا قبسًا من الفكر. في عالم الافتراس، لا يحمي الفكر الجسد من البرد ولا يملأ المعدة ولا يهزم الوحوش، لذلك اضطر الإنسان الأول إلى الاختباء. غير أن غريزة البقاء جعلت تلك الشرارة الذهنية تشتعل داخل الخلايا العصبية، فاستطاع البشر الاعتماد على وعي بسيط ليستمروا على قيد الحياة: أوراق تحمي من البرد، معرفة الثمار الصالحة، وأدوات لمواجهة الحيوان. ومع التعلم والصراع نضج الفكر وولد التخطيط والاستراتيجية والقدرة على التنظيم. احتاج البشر إلى ثمانية ملايين سنة لينتقلوا من القردة العليا إلى الإنسان العاقل، ثم خمسين ألف سنة ليصلوا إلى الإنسان الحديث، ثم عشرة آلاف سنة ليدخلوا الزراعة. ومنذ القرن الثامن عشر لم يحتجوا سوى مئتي سنة ليبنوا المجتمع الصناعي، وها هم الآن يخطون إلى مجتمع الذكاء.

في نوفمبر 2022 أطلقت OpenAI نموذج ChatGPT، وشبّه جينسن هوانغ من إنفيديا اللحظة بلحظة صدور أول آيفون. أثبت النموذج أن الذكاء الاصطناعي قادر على إنجاز مهام معقّدة، وهو أمر لم يتوقع حتى «الخالق» أن يصل إليه البشر انطلاقًا من تلك الفكرة البسيطة الأولى.

وما لم يتوقعه أحد كذلك أن البشر قد يحررون وعيهم من الجسد ليعيش خالدًا في الفضاء السيبراني. إذا حافظ التطور الإنساني على سرعته المتصاعدة، فقد يتحقق «خلود الوعي» خلال خمسين عامًا، ويبدأ الوعي في التطور ذاتيًا داخل العوالم الافتراضية. بالنسبة إلى من يولدون اليوم فهذه أنباء مدهشة؛ فعندما يحل ذلك الموعد سيكونون في أوج قوتهم وسيختارون بحرية إن كانوا يودّون الانفصال عن الجسد. أما من هم في الأربعينيات أو الخمسينيات الآن، فإن رغبوا في دخول الفضاء السيبراني عند فتح البوابة فعليهم الاستعداد من اللحظة، لأن العتبة مرتفعة ولن يُسمح بالدخول على قدم المساواة من دون امتلاك ما يكفي من الموارد.

قد لا يملك فرصة الاختيار سوى من ينتمون إلى أعلى واحد في المئة من أثرياء الكوكب. والأهم من المال هو امتلاك مهارات البقاء في ذلك الفضاء. في العوالم السيبرانية يصبح الحصول على المعرفة والمعلومات حقًا متكافئًا؛ لن تكون بحاجة إلى مساعدين شخصيين أو فرق عمل متخصصة، بل إلى تعاون خارجي عند الحاجة فقط. القيمة الوحيدة للإنسان ستتمثل في قدرته على خلق أفكار جديدة. سيضطر كل فرد إلى بذل أقصى ما لديه ليقف عند الحافة المجهولة لفكر البشرية ويشق ثغرة صغيرة. يشبه الفكر الإنساني كرة يمكنها التمدد بلا حدود، وكل واحد منا يقف على سطح تلك الكرة ويقضي عمره ليضيف إليها وعيًا جديدًا، وإلا فلن يحظى بشرعية العيش على هذا الكوكب. وما يُقبل كفكرة جديدة لا يقرره الفرد، بل توافق عليه جماعة السكان الرقميين، تمامًا كما يحدث في المعابد: لا ينال الراهب مكانته إلا إذا وصل إلى بصيرة جديدة وصدقها باقي الرهبان.

تاريخ النشر: 7 يوليو 2024 · تاريخ التعديل: 20 نوفمبر 2025

مقالات ذات صلة